عدنان بن عبد الله القطان

27 جمادى الآخرة 1444 هـ – 20 يناير 2023 م

——————————————————————————

 

الحمد لله، حكم بالفناء على هذه الدار، وأخبر أن الآخرة هي دار القرار، وهدم بالموت مشيد الأعمار، نحمده سبحانه على نعمه الغزار، ونشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، حذر من الركون إلى هذه الدار، وأمر بالاستعداد لدار القرار صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه البررة الأطهار وسلم تسليماً ما تعاقب الليل والنهار.

أمّا بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)

معاشر المسلمين: من أعظم نعم الله تعالى على عبده أن يرزقه قلباً حيًّاً فيستذكر ويتنبَّه، ويستحضر بعض الأحوال، والمتغيرات والتقلبات التي تمتلئ بها هذه الحياة، والحياة كلها عبر، وكلها تحولات ومتغيرات، بعضها أعظم من بعض، وبعضها يُنسي بعضاً، غيرَ أن هناك حالة أو موقفاً قلَّما وقَف عندَه الإنسانُ، وإن وقف عندَه فإنه لا يُعطيه حقَّه من النظر والتفكير، هذا الموقف يصوِّره الإمام الحافظُ عبد الرحمن ابن الجوزي رحمه الله تعالى حين يقول: (أعجب الأشياءِ: إفاقةُ المحتَضَرِ عندَ موته؛ فإنه يتنبَّه انتباهاً لا يُوصَف، ويقلق قلقاً لا يُحَدّ، ويتلهَّف على زمانه الماضي، ويودُّ لو تُرِكَ كي يتدارك ما فاته، ويصدق في توبته على مقدار يقينه بالموت… ثم قال رحمه الله: فالعاقل مَنْ مَثَّل تلك الساعةَ، أو عَمِلَ بمقتضى ذلك)..

أيها المؤمنون: إن هذا التذكر يكفُّ عن اتباع الهوى، وهذا التمثل، يبعث على الجد ويحفظ الوقت، ويصلح العمل، يستذكر الإنسان حاله، وهو في عافية سابغة، وحياة ممتدة ليتزود من الذِّكْر والشكر وحُسْن العبادة، ساعة الاحتضار -عباد الله- هي الساعة التي يكون فيها الإنسان بين الموت والحياة، هي ساعة تألم وبكى فيها العظماء والعلماء والدهماء، هي ساعة إذا جاءت يعلم الإنسانُ يقيناً أنه سيموت، فليس في هذه الساعة كَذِبٌ، وليس فيها مَهْرَبٌ، فيُرفع له من الحُجُب ما يعرف جزماً أن آخرته قد جاءت، ويُكشف عنه غطاءُ الدنيا، فيرى شيئاً لم يره من قبل.. .

أيها الأخوة والأخوات في الله: الإنسان في هذه الحياة الدنيا في حال الصحة والرخاء والغفلة يكون ذا مال أو جاه أو ذا منصب فهو حينئذ ملء السمع والبصر، وحوله مَنْ يحيط به من حاشيته وبطانته وأتباعه يعيش آمالاً عراضاً وخططاً واسعة، فإذا أدركته حالةُ الاحتضار أو أصابه حالُ يأس من مرض أو حادث مُقعِد ماذا يكون حاله؟ وما هي مشاعره؟ وما هي أمانيه؟ وعلى ماذا يتحسر؟ قد انفض الناس من حوله، وابتعد عنه أربابُ المصالح والأغراض، لقد أصبح في حالة أدرَكَ فيها أن السعادة والسرور هي في القلب السليم، وصلاح العمل، وحُسْن العبادة، والخُلُق الكريم، وصفاء السريرة وحُسْن السيرة، والإيثار ونفع الناس، (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) إن الإنسان في حال الاحتضار أو حال العجز يتفكر ويتأمل: هل كانت الدنيا تستحق كل هذا؟ عداوات وحَسَداً ومنافَسات، وتقديم هذا وتأخير ذاك، وإهمال هذا وتقريب ذاك، وإعراضاً عن هذا وغفلة عن ذاك، غفلة عن حقوق الأهل وتربية الأولاد، تربية وإصلاحاً، بل تقصير في حق النفس صحة وراحة واستقراراً وعبادة وإحساناً، في هذه الحال تنقطع الآمال وتتقاصر التطلعات (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)  لقد أدرك هذا المحتضَر، وأدرك هذا العاجز أن الذين قبله كانوا يحرصون كما يحرص، ويسعون كما يسعى، ويعلمون في الدنيا عمله، ويكدون كدَّه، فاختَطَفَت المنونُ أرواحَهم، وقطعت الآجالُ آمالَهم، وفجعتهم في أحبابهم، جمعوا فكان جَمْعُهم ميراثاً، وبَنَوْا فكان بناؤهم تراثاً، يغفلون عن الآخرة وهي مقبِلة، ويقبلون على الدنيا وهي مدبرة في أحوال الاحتضار عباد الله مشاهِدُ شتى ومواقف مختلفة، (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) (إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلاً) إنهم في حال التذكر وحال المحاسبة يقول المحتضر منهم: وهل ينفع يومئذ القول؟ يقول: لو كنتُ تفكرتُ قليلاً في حال الدنيا، وفي حال الآخرة، لعلمتُ أن في الصلاح وحُسْن العمل وحُبّ الخير للناس أَسْلَمُ الطرقِ، وأنجى المسالك، أين ضجيجُ الجاهِ، وأين جلبة وصخب الأعوان وكثرة العلاقات والاتصالات؟ لقد أدرك المحتضر، أن رفع الدرجات، وسُلَّم الترقيات، هي عند الله وحدَه، وأن عُلُوَّ المقام هو في التقرب من الله عز وجل وإحسان العبودية والإخلاص وليس في مَراتِبِ أهلِ الدنيا، ومناصبهم، وجاههم، وأموالهم.

في هذه الحال تنقطع الآمال وتقصُر التطلعات، فمنهم من يقول كما حكى القرآن عنهم: (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ) ومنهم مَنْ يقول: (رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) ومنهم من يقول: (يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) والجواب للجميع قول الله لهم: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) ويا ويح من يقول: (وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ، فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ، وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ، فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً) ويا لَسعادة مَنْ تتنزَّل عليهم الملائكةُ: (أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) ويا لَفوز مَنْ: (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)

أيها المؤمنون: وهذه أحوال بعض سلفنا الصالح في حال الاحتضار وما أُثِرَ عنهم في مثل هذه الساعات، ينبغي لمن قسا قلبه، وكثر ذنبه، أن يتذكر ذلك ويتأمله، ويتفكر في هجوم الموت عليه؛ لعله يتوب ويحسن الاستعداد للقدوم على الله. ونسأل الله تعالى أن يحسن لنا ولكم الختام، ويتولانا ويثبتنا في الحياة وعند الممات… فهذا رسول الله وحبيب الله محمد صلى الله عليه وسلم، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه، كان عنده قدح فيه ماء، فيدخل يده في القدح، ثم يمسح وجهه بالماء، ثم يقول (لا إله إلا الله، اللهم أعني على سكرات الموت) وكان يتعوذ بكلمات، فأخذت بيده، فجعلت أمسحه بها وأقولها فنزع يده من يدي ثم قال (اللهم أغفر لي، وألحقني بالرفيق الأعلى) قالت فكان آخر ما سمعت من كلامه بأبي هو وأمي صلوات ربي وسلامه عليه.. ويروى عَن أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ أَنه لما مرض مرض الموت َقيل لَهُ: أَلا نَدْعُو لَك طَبِيباً؟ فَقَالَ: (قد رَآنِي)، فَقَالُوا: وَأي شَيْء قَالَ لَك؟ قَالَ: (إِنِّي فعال لما أُرِيد). فتأمل شدة توحيده وتعلقه بربه في أحلك الظروف رضي الله عنه وأرضاه. ولما طعن الفاروق عمر بن الخطاب رَضِي الله عَنهُ أُتِي بِلَبن، فَشرب مِنْهُ، فَخرج اللَّبن من طعنته، فَقَالَ: الله أكبر، وَعلم أَنه يَمُوت، فَجعل جُلَسَاؤُهُ يثنون عَلَيْهِ خيراً، فَقَالَ: وددت أَن أخرج من الدُّنْيَا كفافًاً كَمَا دخلت لَا عَليّ وَلَا لي، وَالله لَو كَانَ لي الْيَوْم مَا طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس لافتديت بِهِ من هول المطلع). ثمَّ قَالَ: ويل لعمر، ويل لعمر، إِن لم يغْفر الله لعمر، فَإِذا قضيت فَأَسْرعُوا بِي إِلَى حفرتي، فَإِنَّمَا هُوَ خير تقدمونني إِلَيْهِ، أَو شَرّ تضعونه عَن رِقَابكُمْ)..  وَلما احْتضرَ عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ جعل يَقُول وَدَمه يسيل: (لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين، اللَّهُمَّ إِنِّي أستعين بك على أموري، وَأَسْأَلك الصَّبْر على بلائي).. ولما طعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أوصى أبنه الحسن أن يغسله وقال: لا تغالي في الكفن فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سلباً سريعاً، وأوصى قائلاً: امشوا بي بين المشيتين، لا تسرعوا بي، و لا تبطئوا، فإن كان خيراً عجلتموني إليه، وإن كان شراً ألقيتموني عن أكتافكم).. ولَمَّا مَرِضَ سلمان الفارسي رضي الله عنه خرَج إليه سعدُ بن أبي وقاص من الكوفة يعوده، فَوَافَقَهُ وَهُوَ فِي المَوْتِ يَبْكِي، فَسَلَّمَ عليه، وَجَلَسَ، وَقَالَ: مَا يُبْكِيْكَ يَا أَخِي؟ أَلا تَذْكُرُ صُحْبَةَ رَسُوْلِ اللهِ؟ أَلا تَذْكُرُ المَشَاهِدَ الصَّالِحَةَ؟)، قَالَ: وَاللهِ مَا يُبْكِيْنِي وَاحِدَةٌ مِنْ ثِنْتَيْنِ، مَا أَبْكِي حُبّاً بِالدُّنْيَا، وَلا كَرَاهِيَةً لِلِقَاءِ اللهِ. قَالَ سَعْدٌ: (فَمَا يُبْكِيْكَ بَعْدَ ثَمَانِيْنَ من العمر؟)، قَالَ: يُبْكِيْنِي أَنَّ خَلِيْلِي رسول الله صلى الله عليه وسلم عَهِدَ إِلَيَّنا عَهْداً، فَقَالَ: لِيَكُنْ بَلاغُ أَحَدِكُمْ مِنَ الدُّنْيَا كَزَادِ الرَّاكِبِ، وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنَّا قَدْ تَعَدَّيْنَا). هذا هو سلمان رضي الله عنه يخشى أن يكون قد تعدَّى، فماذا يقول مَنْ تعدَّى حقيقةً؟ ماذا يقول مَنْ تعدَّى على الأموال فنهبها واختلسها، وتعدَّى على حدود الله فانتهكها، وتعدى على أعراض الناس ولحومهم فنهشها، وتعدى على عقائد الناس وأخلاقهم وفطرهم فأفسدها وحرفها؟ وَلما مرض أَبُو الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ مرض الموت، قَالُوا لَهُ: أَي شَيْء تشْتَهي؟ قَالَ: (الْجنَّة)، قَالُوا: نَدْعُو لَك طَبِيباً؟ قَالَ: الطَّبِيب أَمْرَضَنِي! فَقَالَ لَهُ رجل من أَصْحَابه: يَا أَبَا الدَّرْدَاء أتشتهي أَن أسامرك اللَّيْلَة؟ فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء: (أَنْت معافى، وَأَنا مبتلى، فالعافية لَا تدعك أَن تسهر، وَالْبَلَاء لَا يدعني أَن أَنَام. أسأَل الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ أَن يهب لأهل الْعَافِيَة الشُّكْر، وَلأَهل الْبلَاء الصَّبْر.

وَلما حضرت أَبَا هُرَيْرَة الْوَفَاة بَكَى، فَقيل لَهُ: مَا يبكيك؟! فَقَالَ: يبكيني بُعد الْمَفَازَة، وَقلة الزَّاد، وَضعف الْيَقِين، والعقبة الكؤود الَّتِي المهبط مِنْهَا إِمَّا إِلَى الْجنَّة وَإِمَّا إِلَى النَّار)

وَلما حضرت حُذَيْفَة بن الْيَمَان الْوَفَاة قَالَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي كنت أخافك وَأَنا الْيَوْم أرجوك، اللَّهُمَّ إِنَّك تعلم أَنِّي لم أكن أحب الْبَقَاء فِي الدُّنْيَا لجري الْأَنْهَار وَلَا لغرس الْأَشْجَار، وَلَكِن لظمأ الهواجر، وَقيام اللَّيْل، ومكابدة السَّاعَات، ومزاحمة الْعلمَاء فِي حلق الذّكر)،

وَلما اشْتَدَّ بِهِ النزع جعل كلما أَفَاق من غمرة فتح عَيْنَيْهِ وَقَالَ: يَا إلاهي يا رب! شدّ شداتك، فوعزتك إِنَّك لتعلم أَنِّي أحبك).

وهذا بلال بن رباح رضي الله عنه، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما حضرته الوفاة صار يقول وهو يحتضر: غداً نلقى الأحبة، محمداً وحزبه. هذا هو الذي غلب عليه وهو يحتضر، وهذا الذي كان يسيطر على مشاعره بعد أن فارق حبيبه صلى الله عليه وسلم فاشتاق الى لقائه، لقد اشتاق المؤذن الى الإمام، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه. فصرخت امرأته وكانت بالقرب منه: واويلاه، تقول ذلك لمصيبتها في فراق زوجها، وهو يقول: وافرحاه، وافرحاه. إنه فرح حقيقي بقدوم الموت، إنه اشتياق حقيقي للقاء الأحبة ولقاء الحبيب صلى الله عليه وسلم، ونفسه تغرغر وهو يقول: غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه.

اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

اللهم اجعلنا ممن يفرح بلقائك، وينعم بعطائك، وممن يصحب في الجنة نبيك وحبيبك محمد وأولياءك الصالحين يا رب العالمين.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي خلق الموت والحياة، وجعل الظلمات والنور، وجعل لكل شيء نهاية، نحمده سبحانه ونشكره، ونثني عليه الخير كله، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

أما بعد فيا أيها المسلمون: ومن عجب أخبار القوم من السلف رحمهم الله، أنه َلما دنت الْوَفَاة من الخليفة الأموي عمر بن عبد الْعَزِيز رَحمَه الله بَكَى، فَقيل لَهُ: مَا يبكيك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟! أبشر فقد أَحْيَا الله تبَارك وَتَعَالَى بك سنة، وَأظْهر عدلاً، فَبكى ثمَّ قَالَ: (أَلَيْسَ أُوقف ثمَّ أُسأَل عَن هَذَا الْخلق؟! وَالله لَو عدلت فيهم لخفت أَن لَا تقوم نَفسِي بحجتها عِنْد الله تَعَالَى إِلَّا أَن يلقنها حجتها) ولما حضر الخليفة المأمون الموت قال أنزلوني من على السرير، فأنزلوه على الأرض، فوضع خده على التراب وقال: يا من لا يزول ملكه، ارحم من قد زال ملكه.. ولما أحتضر الخليفة هشام بن عبد الملك، نظر إلى أهله يبكون حوله فقال: جاء هشام إليكم بالدنيا وجئتم له بالبكاء، ترك لكم ما جمع وتركتم له ما حمل، ما أعظم مصيبة هشام إن لم يرحمه الله عز وجل.

ولما احتضر الخليفة العباسي هارون الرشيد ويئس الأطباء من شفائه، وأحس بدنو أجله، قال: أحضروا لي كفناً فأحضروا له، فقال: احفروا لي قبراً، فحفروا له، فنظر إلى القبر و قال :(مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ)

وَلما حضرت مُحَمَّد بن سِيرِين رحمه الله الْوَفَاة بَكَى، فَقيل لَهُ: مَا يبكيك؟ فَقَالَ: (أبْكِي لتفريطي فِي الْأَيَّام الخالية، وَقلة عَمَلي للجنة الْعَالِيَة، وَمَا ينجيني من النَّار الحامية).

وَلما حضرت الْوَفَاة فُضَيْل بن عِيَاض رَحمَه الله غشي عَلَيْهِ، ثمَّ أَفَاق وَقَالَ: (يَا بُعد سَفَرِي، وَقلة زادي). وَلما نزل الْمَوْت بِسُلَيْمَان التَّيْمِيّ رحمه الله قيل لَهُ: أبشر فقد كنت مُجْتَهداً فِي طَاعَة الله تَعَالَى، فَقَالَ: لَا تَقولُوا هَكَذَا، فَإِنِّي لَا أَدْرِي مَا يَبْدُو لي من الله عز وَجل، فَإِنَّهُ يَقُول سُبْحَانَهُ: (وَبَدَا لَهُم مِنَ اللَّهِ مَا لم يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) قَالَ بَعضهم: عمِلُوا أعمالاً كَانُوا يظنون أَنَّهَا حَسَنَات فوجدوها سيئات.

وَكَانَ الْجُنَيْد بن محمد رحمه الله يقْرَأ القرآن -وَهُوَ فِي سِيَاق الْمَوْت- وَيُصلي، فختم، فَقيل لَهُ: فِي مثل هَذِه الْحَال يَا أَبَا عَليّ؟! فَقَالَ: وَمن أَحَق مني بذلك، وَهَا هُوَ ذَا تطوى صحيفَة عَمَلي، ثمَّ كبر وَمَات). وَقيل لَهُ: قل لَا إِلَه إِلَّا الله، فَقَالَ: نَسِيته فأذكره.

ويروى عَن عبد الله بن الْمُبَارك أَنه لما احْتضرَ نظر إِلَى السَّمَاء فَضَحِك، ثمَّ قَالَ: يا ابن المبارك: (لِمِثْلِ هَذَا فليعمل الْعَامِلُونَ) ويروى أَن محمد ابْن الْمُنْكَدر رَحمَه الله عِنْدَمَا نزل بِهِ الْمَوْت بَكَى، فَقيل لَهُ: مَا يبكيك؟! فَقَالَ: (وَالله مَا أبْكِي لذنب أعلم أَنِّي أَتَيْته، وَلَكِنِّي أَخَاف أَن أكون قد أذنبت ذَنباً حسبته هيناً وَهُوَ عِنْد الله عَظِيم) وَقد روي عَنهُ كَلَام آخر يدل على علو مَنْزِلَته وارتفاع دَرَجَته..  وروى إسماعيل المزني قال: دخلت على الشافعي رحمه الله في مرضه الذي مات فيه، فقلت له: كيف أصبحت يا أمام؟ قال: أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولسوء عملي ملاقياً ولكأس المنية شارباً، وعلى الله وارداً، ولا أدري أروحي تصير الى الجنة فأهنيها، أم الى النار فأعزيها، ثم أنشأ يقول:

وَلَمّا قَسا قَلبي وَضاقَت مَذاهِبي

                                   جَعَلتُ الرَجا مِنّي لِعَفوِكَ سُلَّماً

تَعاظَمَني ذَنبي فَلَمّا قَرَنتُهُ

                                   بِعَفوِكَ رَبّي كانَ عَفوُكَ أَعظَماً

فَما زِلتَ ذا عَفوٍ عَنِ الذَنبِ لَم تَزَل

                                          تَجودُ وَتَعفو مِنَّةً وَتَكَرُّماً

فاعتبروا رحمكم الله بما قد سمعتم، وتذكروا حلول ساعة الاحتضار بنا وبكم، وحاسبوا أنفسكم، ماذا عملتم فيما مضى؟! وماذا عساكم أن تعملوا فيما بقي؟ وتذكروا: كم ودعتم من أهل وإخوة، وأصحاب وأحبة، وأقربين؟ وكم واريتم في الثرى والقبور من أصدقاء وأعزة ومجاورين؟! واعلموا أن الموت الذي تخطاكم إليهم سيتخطى غيركم إليكم، فإلى متى الغفلة يا عباد الله؟! فأكثروا من تذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد له.

فنسأل الله سبحانه أن يحسن لنا الخاتمة، وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة، وأن يجعل أسعد أيامنا يوم نلقاه.

اللهم ارزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال وأحسن لنا الختام وتوفنا وأنت راض عنا غير غضيان، واغفر لنا جميع ما سلف منا من الذنوب والعصيان، واعصمنا فيما بقي من أعمارنا ووفقنا لعمل صالح ترضى به عنا، واغفر لنا ذنوبنا إنك أنت الغفور الرحيم.

اللهم اجعل خير أعمارنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك.

اللهم أرحمنا إذا اشتدت السكرات، وتوالت الحسرات وأطبقت الروعات وفاضت العبرات، وتعطلت القوى والقدرات..

اللهم أرحمنا إذا بلغت التراقي، وقيل من راق، وتأكدت فجيعة الفراق للأهل والرفاق، وقد حم القضاء فليس من واق. اللهم أرحمنا إذا حملنا على الأعناق، إلى ربك يومئذ المساق للبعث والحشر والحساب برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم اجعل بلادنا وخليجنا آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في وطننا، ووفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده سلمان بن حمد، اللهم وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.. اللهم كن لإخواننا المستضعفين المظلومين في كل مكان ناصراً ومؤيداً، اللهم أحفظ بيت المقدس وفلسطين والمسجد الأقصى، وأحفظ أهله، وأحفظ المرابطين فيه، واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين.

اللهم وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبواب القبول والإجابة اللهم تقبَّل طاعاتنا، ودعاءنا، وأصلح أعمالنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتب علينا، واشف مرضانا، واغفر لنا ولموتانا وارحمنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ. (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

          

             خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين